JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
recent
عاجل

ذاك اللوح الذي علّمني الحرف

 

الكاتب/ فرج احمد فرج

كنتُ صغيرًا، لا أعرف من الدنيا إلا وجه أمي حين توقظني فجراً، وصوت عصا الفقيه وهي تضرب الأرض لبدء الدرس في “الكتاب”. هناك، حيث الأرض مفروشة بالحُصر، والجدران تتزين بآيات من كتاب الله، كان أول لقاء لي مع العالم… عبر لوحٍ أسود صغير يسمونه لوح الأردواز.
لم يكن لدينا دفاتر ولا أقلام كما أراها اليوم بين يدي الأطفال، بل كان هذا اللوح رفيقي الدائم. كنت أحمله تحت إبطي كل صباح، وقد لُفَّ بطرفٍ من القماش نستخدمه للمسح، وفي اليد الأخرى علبة صغيرة بها قطع من الطبشور الأبيض، وبعضها مكسور من كثرة الاستعمال.
في “الكتاب”، كنا نَجلس صفوفًا متقاربة، وعيوننا على الشيخ الجليل، نتابع حركة شفتيه وهو يرتّل، فنُقلّد، ونكتب. كان يُعلّمنا كل شيء على بساطته: الحروف الأبجدية، وكيف نكتبها على اللوح، والحساب، وكيف نجمع الأرقام ونطرحها، والكتابة بخطٍ جميل، والدين، من قرآنٍ كريم، وأحاديث، وسلوكٍ طيّب. وكنا نحفظ بالترديد خلفه، جملةً جملة، حتى يرسخ الكلام في صدورنا قبل عقولنا.
كنت أُمسك بالطبشور وكأنني أُمسك بمفتاح سحري، أكتب حرفًا تلو حرف، كلمة بعد كلمة، والشيخ يمرّ بيننا يتأمل ما كتبناه، يصحّح مرة، ويبتسم أخرى.
أحيانًا كنت أخطئ، فتمتد يد الشيخ بعصاه الخشبية إلى ظهري، فأحني رأسي خجلًا، وأمسح اللوح بسرعة وأعيد الكتابة، وأنا أُتمتم في نفسي: “لن أخطئ مرة أخرى… لن أخطئ”.
ذلك اللوح لم يكن مجرد أداة للكتابة. كان كتابي الوحيد، ودفتر واجباتي، وسبورتي الصغيرة، ومدرستي كلها في حجر واحد. كنا نخط عليه الأبيات، والجمل، والآيات، نحفظها غيبًا، ثم نمسحها لنكتب غيرها. كان له وجهان، واحد للدرس، وآخر للأخطاء والمحاولات الأولى، وكان بعضنا يزيّن إطاره الخشبي بأشكال بسيطة منقوشة بالسكاكين الصغيرة.
وفي لحظات الغفلة، كنا نلعب به أيضًا، نرسم عليه خروف العيد، أو نكتب أسماءنا بخط كبير، ثم نمسحها سريعًا قبل أن يرانا الشيخ.
كم أحببت لوحي… كان صديقي في زمنٍ لم يكن للصداقة فيه معنى إلا المشاركة في الحفظ، وتبادل الطباشير، والابتسام للنجاح في الكتابة بلا خطأ.
مرت الأيام، وجاءت الدفاتر والكراسات والأقلام الملونة، وتركنا “الكتاب”، لكن لوح الأردواز بقي في الذاكرة… ساكنًا في ركنٍ قديم من القلب، حيث لا يبهت الحنين، ولا تمحوه الأيام.
ذاك اللوح الذي علّمني الحرف

عبدالعظيم زاهر

Comments
    No comments
    Post a Comment
      NameEmailMessage