دم هابيل الطاهر يُسفك مجدداً عبر أجيال اليهوذا "
في البدء، حين كان الكون ما يزال يتنفّس أنفاسه الأولى، وحين كانت الأرض ترتجف ككائنٍ حيّ يتهيّأ لامتحان عظيم؛ دوّى في أرجائها صوتٌ مختلف عن سائر الأصوات كان صدى أول جريمة تُرتكب على ترابها، جريمة سيبقى وقعها يتردّد في العوالم كلها ما دام للزمن ذاكرة. هناك، وسط سكون الوجود، رفع قابيل يده على أخيه هابيل، فانشطر النور عن الظلام، وتدشّن ميلاد الشرّ كقوّة سرمدية فاعلة في مسرح البشرية.
حواء، وهي تحمل جنينها الأول، أحسّت بآلام لم يعرفها جسدٌ من قبل؛ لم يكن وجع لحمٍ ودم فحسب، بل كان وجع روحٍ تدفع إلى الوجود ثمرةً مشوهة مشوبة بسمٍّ قديم.
لقد مرّت على طينة آدم لمسةٌ خفيّة من نجس إبليس لحظة خُلق، فبقي فيها أثرٌ غامض لا يزول. وحين أكلت من الشجرة المحرّمة، لم تذق ثمراً عادياً، بل ذاقت طعم الموت والشرّ معاً، فصار ما في أحشائها مرآة لذلك الطعم. فجاء قابيل البكر الملعون، أوّل غصن فاسد في شجرة البشر. كان وجهه يحمل ملامح التمرّد، وصدره يضجّ بعقوقٍ وغضب، كأنه خُلق من خليط من الضلال والسموم.
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا
لكن في الجانب الآخر من القصة، ولد هابيل ثمرةٌ من نور، عزاء ورحمة، كأنه شعاع طُبع بالسكينة، تحفّه طهارة لا تشوبها شائبة. كانت ولادته كالبلسم لقلبي آدم وحواء، إذ رأوا فيه تجسيداً للسلام الذي في قلبيهما، نقيضاً لشقيقه الذي لا يحمل سوى بذور الخراب.
ولآدم وحواء طقوس عبادة غامرة بالخشوع، يصطحبان فيها أبناءهما إلى موضع مقدّس، حيث يرفعون الأكفّ بالدعاء : «ربّنا تقبّل منّا». في ذلك المشهد الكوني، كان الدعاء أشبه ببوابةٍ سريّة تمتحن الأرواح، وتكشف حقيقة ما يُخبّئه القلب. امتحان النية الخالصة، امتحان يتجاوز الطعام و المتاع، هو الدعاء نفسه الذي تردّد لاحقاً على لسان إبراهيم الخليل، وباحت به امرأة عمران حين نذرت ما في بطنها لله وكان من ذريتها مريم الصديقة.
المسألة صلاة خالصة تُقدَّم للخالق، هي أسمى من القربان البسيط المتداول عند الجميع، فقالوا: هؤلاء أبناؤنا. فتقبّل الله هابيل ولم يتقبّل قابيل.
عندها غضب قابيل وقال لأخيه: "كيف لا يتقبّلني الإله؟
فقال لأخيه: لنراهن مجددا، منّا نحن الاثنين، ولنجعل القربان حكماً بيننا".
في ذلك اليوم، اصطفّ الابنان أمام الله.
أقبل هابيل على محرابه بصفاء الروح، قدّم صلاته ونيّته الخالصة، متيقّناً أنّ الله لا يطلب من عباده إلا نقاء السريرة وخشوع الأرواح.
أمّا قابيل، فانقاد بروح البيع والشراء، فحوّل قربانه إلى رشوةٍ. متوهّم أن الله يُخدع بها، كأنّه في سوق المساومة أو في طقسٍ وثنيّ أمام صنمٍ أبكم.
وضع ذبيحة مثل شيء مادي، بين يدي الإله كأن الخالق محتاج إلى ماله وزينته، معتقداً أنّ الله يزن القربان بالكمّ، لكنه لم يفهم أن الله غنيّ عن العالمين، لم يكن يدرك أنّ ذمة الله لا تُشترى، ولا يرضى بمساومة، وأنّ العبادة بلا إخلاص ليست سوى قناع زائف. إن الإخلاص في الطاعة، لحظةً واحدة كانت كافية لتنكشف حقيقته.
فتقبّل الله من هابيل، لأن صلاته كانت نافذة من قلبه، وانصرف عن قربان قابيل، لأنه كان خالياً من الروح. فأصاب قربان قابيل صاعقة نسفته نسفا،
وهنا تجلّت الحقيقة: أنّ النفوس المريضة لا تحتمل نور الطاعة، وأنّ الحسد حين يستيقظ يصبح أشد فتكا من أي سيف.
لم يكن غضب قابيل على السماء بقدر ما كان حسداً لأخيه؛ حسد على تقوى هابيل، وعفته، ووداعته، وبرّه لوالديه. قابيل كان فارغ الروح، بلا ضمير، بلا نور يربطه بالخالق. لا الأرض أحبته ولا السماء احتضنته، كان مفسداً في الأرض، يجرّ وراءه ثقل الخطيئة.
ومن رماد الحسد ولدت فكرة مظلمة، وهي أن يقتلع النور من طريقه، فتبلورت في صدر قابيل نية القتل، أراد أن يصفي أخاه ليخلو له وجه والديه، كما فعل إخوة يوسف لاحقاً حين دفعهم الحسد إلى التآمر عليه. لكن الفرق أن يوسف نُجي بمعجزة، بينما هابيل ارتقى شهيداً كأول جريمة خطّتها يد الإنسان الفاسد على وجه الأرض.
ومن تلك اللحظة سال دم بريء على وجه الأرض، وأُعلن بدء الصراع بين أبناء الحق وأبناء الباطل قابيل، وارتسمت على وجه الأرض أوّل دمعةٍ من دم الإنسان.
منذ تلك اللحظة، أُعلن عن بداية الحرب الخفية؛ حرب بين أبناء النور وأبناء الظلام. قابيل غدا رمزًا للفساد الأبدي، وهابيل تحوّل إلى أيقونة البراءة المذبوحة، شاهداً على أن الشر لا يتحدث إلا بلسان القتل.
بعد أن تخلّص قابيل من أخيه، لم يهدأ قلبه، ولم يُمحَ من صدره دنس الجريمة، بل ازداد سواداً وفساداً. لقد صار الشرّ عنده عادة، والشهوة ديناً، فامتدّت يده إلى ما لا يجوز له، إذ ولدت لحواء في البطن الثالثة، بنتاً بريئة، فهجم عليها قابيل وتحرّش بها وأرادها لنفسه، بدافع شهوته المريضة. غاصب أعماه الهوى، لا عقل يردعه ولا دين يوقفه، يتخطى حرمة الدم ويهدم ميثاق الأخوّة.
خطفها وهي طفلة عفيفة، وفعل بها فعل الأزواج، فحملت منه وأنجبت مولوداً أُطلق عليه اسم "ياهوذا".
ويعنى"هذا من فعل الشيطان". كما يقال اليوم "هذا ابن زنى". ومن تلك اللحظة السوداء، بدأ نسل غامض ينمو في الخفاء، نسل خرج من رحم محرّم، بعيد عن الناموس الإلهي، غريب عن الطهر الذي أراده الله لتناسل بني آدم.
أما آدم وحواء، فقد كانا على هدى من الله، ينجبان بعد البطن الثالثة ذكراً وأنثى توأم في كل بطن، وكانت الملائكة ترشدهم إلى التزاوج "البعيد" ليس بين الإخوة وإنما من البطون المختلفة، حتى تبقى الفطرة نقية صافية، كما أُريد لها منذ لحظة الخلق. لكن قابيل كسر هذا الناموس، وابتدع من شهوته شريعة، ومن فساده شرعة، فخرج نسله همجياً، ضعيف الطبع، لا يعرف الحياء، ولا يقدر على بناء حضارة أو حمل راية القتال.
هؤلاء سمّوا بـ نسل "ياهوذا" أو ما يطلق عليهم باليهوذا ، بعكس النسل الآخر الذي أطلق عليهم إسم " هادوا " الذين بقوا على طهرهم، يحملون صفات القوة والبرّ. ومن هنا بدأ الخط الفاصل بين نسليْن؛ نسل النقاء الذي حفظ وصايا السماء، ونسل الدنس الذي صار حاملاً لإرث قابيل وأثر الشيطان.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مِنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ..}
وما ورثه قابيل من تمرّد إبليس، هو نفسه الذي جرى في دماء ذريته، وتحوّل مع الأزمان إلى شعب وأمة تجسّد فيها الغرور والمكر والتمرّد، حتى بلغ ذروته في ذلك الكيان المعروف باليهوذا؛ حيث اجتمع فيهم مكر الشيطان، وكِبر قابيل، وروح كل نفس عصت وصايا السماء.
نسلٌ معروف بالخبث في التفكير والضعف في الجسد بسبب زنى المحارم، بعكس النسل الطاهر الذي بقي على عهده، يحمل صفات القدرة على القتال في الميدان. ومن هنا، تَرسّخ على وجه الأرض خطّان متوازيان:
خطّ النقاء، أبناء الطهر، حملة الوصايا هم الذين "هادوا" .
وخطّ الدنس، أبناء قابيل، حملة لعنة إبليس هم "اليهوذا" .
وهكذا إنبثق الشرخ العظيم، الشرخ الذي سيظلّ يلوّن وجه التاريخ، ويشعل صراعاً أزلياً بين الطهارة والدنس، بين أبناء النور وأبناء الظلام ؟
منذ اللحظة التي تزاوج فيها قابيل من أخته، خرج إلى الوجود نسل ملعون من السماء، نسلٌ متمرّد على تعاليم الله، عُرف عبر العصور بـ"ذرية ياهوذا". لم يكتفوا بالمعصية الأولى، بل جعلوا من زنا المحارم شريعة بينهم، ومن تلك الفاحشة تفجّر نسلهم سريعاً كالطوفان الأسود.
لكن ما لم يتوقّعوه أن لعنة الضعف لما ضربت أجسادهم؛ جاءت ذريتهم هزيلة البنية، عاجزة عن القتال، واهنة في ميادين الحرب. وكان هذا أثقل ما نزل عليهم، لأنهم وجدوا أمامهم نسل أبناء عمومتهم، ذرية "هادوا " الطيبة، الذين تقبّلهم الله ببركته، فجاءوا أقوياء الأجساد، أشداء في الحروب، ثابتين في الميدان.
فشلت خطط أبناء قابيل في السيطرة على المعمورة بقوتهم المباشرة، إذ لم يملكوا جسارة الحرب، ولا صلابة الأجساد. لكن نواياهم لم تهدأ، فقد ورثوا عن أبيهم الغاية الخبيثة وهي القضاء على نسل أبناء عمومتهم بالكامل، حتى يعمّروا لوحدهم الأرض، كما فعل قابيل يوم قتل هابيل ليتفرّد بنظرة الله ورضاه ويخلو له وجه الإله،
ولم تكن قصة أخوين وفقط؛ وإنما هابيل كان رمزاً لكل ما هو صالح ونقي، وقابيل صار مثالاً لكل ما هو طالح وشيطاني. ومنذ ذلك الدم المسفوك، اندلعت حرب خفية، حرب لم تخمد قط، يقودها قابيل في الظلّ عبر ذريّته، كي يحكم الأرض وحده، ويُرغم الله على محبته وقبوله كما تقبّل قربان هابيل. بل أراد أن يرغم آدم وحواء نفسيهما على محبّته، كما أحبّا ابنهما البارّ الشهيد.
ذرية قابيل، نسل "ياهوذا"، ظلّوا عبر العصور يعملون في الخفاء، يخططون لإبادة الجميع سراً، حتى لا يبقى على وجه الأرض أحد سواهم. ظنّوا أنه إذا خلا الكون منهم على حساب غيرهم، سيضطرّ الله نفسه أن يحبّهم، لأن لا بشر سواهم سيبقى ليظهر زورا أنه على هدى النور.
تكاثر نسل الظلام "ياهوذا" حتى غلب بالعدد، وإن كان ضعيف الجسد، مرتجف القلب أمام شبح الموت، لكن وفرة ذريته جعلته كالطوفان، لا يُهزم بل يزداد زحفاً مع الزمن. وعلى الضفّة الأخرى، وقف نسل الطهر "هادوا" شامخاً، أجسادهم صلبة كالصخر، قلوبهم قوية في ساحة القتال، وعزيمتهم كالنار متّقدة.
وهنا انكشفت المفارقة الكبرى، الضعفاء جسداً حملوا دهاء العقول، والأقوياء جسداً حملوا صفاء النفوس.
كان أبناء قابيل يطلقون على أنفسهم أبناء الله "الأذكياء"، يفاخرون بمكرهم كما يفاخر النور بقوته. ولأنهم عجزوا عن المواجهة في الميدان؛ استدعوا حيلة الشيطان وقالوا فيما بينهم عن نسل "هادوا" الأصفياء الأقوياء وهم يكيدون لهم سرا،
"إذا اختلطنا بهم عبر الزواج، نُضعف نسلهم، ونذبل قوتهم، بينما نحن نزداد خبثاً ودهاءً."
فدخلوا على الشعوب الأطهار من باب النساء. جعلوا من الأرحام جسوراً لاختلاط السلالة، وأفسدوا النسيج البشري شيئاً فشيئاً. لم تسلم قارة ولا أمة من زرع نسل "ياهوذا" بينهم،
إفتعلوا حروبا وهمية وأشعلوا نار الفتن، إندسوا بين الناس وزرعوا نساءهم بينهم حتى يتزاوجون معهم؛ ويولد نسل جديد هجين، يجمع بين ذرية "هادوا" وذرية "ياهوذا" الملعونة، لم تنجو أوروبا، آسيا، إفريقيا، وحتى العوالم الجديدة ما وراء المحيطات. صار مشروعهم ممتداً عبر العصور، حيث تُستدرج الرجال بالزنى ليولد نسل ضعيف من جانب، ويبقى الخبثاء أذكياء من الجانب الآخر، مشروع يختبئ خلف الحرية ويتقدّم بأدوات السحر، فيصنع نسلاً مشوهاً من جهة، ويحتفظ لنفسه بذكاء خبيث متوارث من جهة أخرى.
تذكر الروايات أن عاشقات مدرّبات، أسقطوا رجالاً من نسل النور، أبادوهم قبل أن يُورّثوا قوتهم، وأن عباقرة وفرسان لم يُمهَلوا حتى يكتبوا أسماءهم كاملة في سفر الحياة. كانت نساء الظلام كالشِراك، ورجالهم كالسكاكين المغمدة في الظلّ، يضربون حيث لا يُتوقّع.
قد سجّل التاريخ أن قادة وسلاطين عظاماً في العالم قُتلوا على يد يهودية متمرسة. استعان هذا النسل الفاسق الغير السوي بعبادة الشيطان والشذوذ لايقاع الرجولة في الوحل، فكانا أداتين لا ينفصلان عن مخططات هذا النسل المختل؛ فإذا وقعت امرأة حرّة في شراكهم وأنجبت، أُبيد أولادها كي لا يبقى من نسلها ما يهدّد مشروعهم. أما إذا ظهر رجل عبقري يحمل نَفَس الفروسية والقيادة، عُجّل باغتياله و القضاء عليه، لئلا يورّث قوته لأجياله.
وهكذا، عبر الأزمنة، سارت خطتهم متستّرة تحت شعارات وحكايات، بينما الهدف واحد؛ إضعاف الأمم ثم السيطرة الكاملة على كل شيء.
استهدفوا الجسد، ثم الجسد، ثم الجسد... جعلوا منه البوابة الكبرى لحكم العالم، ولأن أجسادهم كانت ضعيفة مختلطة وخبيثة؛ ابتكروا حيلة أخرى ليقضوا على أجساد أعداءهم، فاشتروا شركات الأطعمة والأدوية وصنّعوا اللقاحات، وراحوا يلوّثونها سراً. دسّوا السموم في الهواء والماء، غيّروا طبيعة الغذاء وجعلوا من الدواء وباءً مستتراً. ولما ضعُف أبناء عمومتهم، وأصابتهم البلادة والغباء، انتُزعت منهم الأرض عنوة.
وبينما كانت الأمم تظن أنها تسير نحو مجدها، كان نسل قابيل يمدّ حولها شباكًا غامضة تُكبِّل خطاها. لم يكتفوا بفساد الأرحام، بل أدركوا أن العقل نفسه هو البوابة الكبرى للسيطرة. فابتكروا حيلة أخرى؛ لبسوا أقنعة العلماء، ملكوا موارد الطاقة، سيطروا على المخابر، دسّوا السمّ في العسل، وبدّلوا فطرة كل شيء، حتى صار اللقاح داءا مقنّعاً ضد الأطفال.
وبمرور الزمن، ضعف نسل النبوة واعتراه الوهن والمرض، فتساقطت قوته كما يتساقط ورق الشجر في مهب الريح. انتُزعت منه القوة وسُلبت منه الزعامة والسلطة، حتى أصبح غريباً في دياره.
هناك، وسط فراغٍ صنعوه، رفع أبناء قابيل رؤوسهم، كأنهم يقدّمون قرباناً ثان إلى السماء، يفاخرون بأنهم حقّقوا وصية جدّهم الأول:
أن يسودوا فوق الأرض، بالدهاء والفساد، لا بالقوة ولا بالشجاعة، حتى يخال للمرء أنهم يقدّمون إلى الله قربان خبثهم كما قدّم آباؤهم قربان الجريمة.
وهكذا صار للعالم وجهان؛ وجه الطيبين يُنهك ويذبل، ووجه الدنس يتوسّع بالمكيدة، حتى يغطي وجه الأرض بظلاله!
لكن قربان نسل قابيل لم يكن صلاةً ولا إخلاصاً، بل دماء الأبرياء التي أراقوها عبر العصور؛ من فلسطين العزّل، إلى الحروب التي أشعلوها في الشرق والغرب، جعلوا دم البشر وقوداً لمذبحهم المظلم. أرادوا أن يخلو لهم وجه الله، كما أراد قابيل يوماً أن يخلو بوجه أبويه. منتظرين قبولاً زائفاً، كما لم يُقبَل جدّهم الأول.
عادوا إلى الله مثقلين بجرائمهم، خونة وكاذبون، يرفعون قرباناً من جماجم الشعوب، يزعمون أنها عبادة، بينما الأرض تشهد عليهم والسماء تلفظهم. لوّثوا نسل البراءة؛ لوّثوا دمه وعقله ورحم نسائه، ثم ادّعوا أنّهم أصحاب القربان!
فقالوا بعد أن دنّسوا الأرض ومن عليها، -"أنظر يا ربّ، ها هي ذريّة "هادوا" الطيّبين، نسب النبوة الأطهار، قد خانوا وأضلّوا وأهلكوا، أما نحن، فنسألك القبول، كما تقبّلت هابيل، وأن تحفظ في الأرض ذرية أبناء المتنورين، وألا تدع نسل "هادوا" يستفرد بها."
اليوم، "اليهوذا" هم الامتداد الطبيعي لذلك الأخ، الجدّ الملعون؛ قابيل وقد تفرّع منه قرون وأجيال من "اليهوذا".
والأمم جميعها تُمثّل هابيل، كلما قُتِل أخٌ منهم، أعاد "اليهوذا" الجريمة الأولى. لن يتوقّفوا عن سفك الدم، لأنهم يظنّون أن الدم وحده يرفعهم إلى المقامات العليا. يقولون في كبرياء: "نحن أحرار نفعل ما نشاء، نحن أحبّاء الله المختارون." لكن أفعالهم تصرخ بالخيانة والدم.
وفي داخلهم لم تمت الخطيئة الأولى؛ حسد قابيل دفعه لقتل أخيه، ثم رفضُ الله له. تلك اللعنة ما زالت تسري في دمائهم، يحاولون إخفاءها بقربان مزيّف يرفعونه إلى السماء.
لكن السؤال الأعمق ظلّ يتردّد عبر القرون: ما علاقة "اليهوذا" بالدجّال؟
إنه منهم، كبيرهم وأشرّهم، مشروعهم الأخير وأداتهم الكبرى، يقدّمونه على أنه "المسيح المنتظر"، بينما هو "المسيخ الكاذب"، يَعِدُهم بمحو خطيئة قابيل بدماء البشر أجمعين. وفي سبيل ذلك، لن يتردّدوا في محو أمم ودول من على وجه الأرض باستخدام النار والحديد، إن كان ذلك ثمن أن يخلو لهم وجه الله لهم وحدهم.
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ...}
لم تبقَ صلاة، ولا عبادة، ولا خشوع، حتى نسل المخلَصين الصامد سار على خطى نسل قابيل، فضعفت الفطرة، وتشوّه الميراث.
"اليهوذا" عبر التاريخ ومنذ الزمن الأول لم يُعرفوا بالقتال في الميادين، إلا حين أضعفوا خصمهم بالأمراض، وهذا ما حدث في الزمن الأخير، عندما فقط تجرؤوا على النساء والأطفال. لولا السلاح النووي الذي يختبئون خلفه ما استطاعوا مواجهة قوم عزّل.
سلاحهم الحقيقي ليس في المدافع ولا في البنادق، بل في ما خفي:
في اللقاحات المحقونة بالسموم، في الأطعمة الملوّثة بالخبَث، في الأدوية التي تحمل موتاً خفياً، في المياه المعبّأة بالأمراض. يظنّ العالم أن حربهم محصورة في فلسطين، لكن الحقيقة أنّ حربهم على البشرية جمعاء.
كل أمة اليوم تُضرَب بسلاح يناسب ضعفها؛ هذه تنهكها المخدرات، وتلك يفتِك بها الغذاء المسموم، وأخرى يطويها الوباء المُصنّع. هكذا تُدار الحرب الكبرى، حرب عالمية صامته، وجهت على الروح والجسد معاً، حرب طاحنة لا تحسونها، ولكنها الأخطر من كل سلاح.
تُدار الحرب في الظل، حرب إبادة شاملة، تمضي ببطء ولكن بثبات، هدفها كل الأجناس البشرية وليس أمة دون أخرى، أي أن كل ذرية النور المستهدفة، والممتدة من الأخ هابيل.
كانت الغاية النهائية واحدة، محْو أمة الأنبياء والمرسلين كليّاً، والإبقاء على نسل الأخ قابيل وحده، ليخلو لهم وجه الإله، وليقولوا: "ها نحن أبناؤك الحقيقيون، وجه آدم وحواء لنا وحدنا، ووجهك لنا أيضا، فامنحنا الأرض وما عليها ميراثاً أبدياً."
ومن أجل بلوغ تلك النتيجة، دسّوا السمّ في دماء البشر، لوّثوا نسل الأخ هابيل، وأفسدوا أرواح أبنائه، ثم رفعوا رؤوسهم نحو السماء وقالوا بجرأة وقحّة
-"يا ربّ، انظر إليهم، أما ترى أنهم لا يستحقون حبّك؟ ألم يكونوا منذ البدء منافقين؟ حيوانات أغبياء لا يعرفون الغاية؟ وأنت يا ربّ كنت مخطئاً حين تقبّلت قربانهم، لم تُحسن الانتقاء! وها نحن اليوم قد تمكّنا منهم في الأرض، أبدانهم بين أيدينا، وها نحن نصحّح خطأك الأول. عدنا إليك بقربان ثانٍ، فتقبّلنا، وقرّبنا منك، وأعد أمّنا حواء لتُحبّنا كما أحبّت أخانا هابيل."
لم ينسَ نسل "ياهوذا" وصية قابيل جدّهم الأول؛ فقد أوصاهم أن يسيروا على خُطاه، أن يُرغموا السماء على تقبلهم، وأن يجعلوا من قتل ذرية هابيل قرباناً أزلياً، تُعاد صياغته في كل عصر، في كل جريمة، في كل دم مسفوك.
هابيل يمثّل الإنسان كما أراده الله؛ صادق النية، قويّ الجسد، مستقيم الروح. أما قابيل، فيمثّل الإنسان حين تلوث بالشيطان، حسدا وغدرا وعقوق.
ومنذ أن سقط أول دم بريء على وجه الأرض، انفتح صراع أبدي بين النور والظلام. قابيل لم يكتفِ بقتل أخيه، بل ورثه نسلاً متمرّداً، حمل لعنة السماء. يزنى بمحارمه، فأنجبوا ذرية ملعونة تدعى نسل "ياهوذا". جموعاً تتكاثر بسرعة، لكنها ضعيفة الأجساد، عاجزة عن القتال، لا تحمل بأساً في المواجهة. ومع ذلك، ورثت دهاء الشيطان ومكر إبليس، فاستعاضت عن القوة بالحيلة، وعن الشجاعة بالخداع.
كان مشروع نسل قابيل أن يُفني نسل هابيل، ليبقوا وحدهم على الأرض، فيرغموا الله على قبولهم، كما حاول جدّهم الأول: أن يُرغم السماء بقربانه الملوث. قالوا في كبريائهم: "نحن أبناء الله وأحباءه، نحن من نصحّح خطأك الأول، فتقبّلنا قهراً كما تقبّلت هابيل."
ومنذ ذلك الحين، دار صراع خفي عبر العصور، نسل هابيل طاهر، قوي، فارس في الحروب، رمز النقاء مع نسل قابيل ملوث، ماكر، خبيث، يسير في الظل، يغتال، يخدع، يلوّث الدماء.
لم يقاتل نسل قابيل مواجهة، بل اخترقوا الأمم من الأرحام بالنساء، بالزنا والخيانة والسحر، حتى تداخلت الأنساب وتلوثت الفطرة. وحين عجزوا عن الحروب، صنعوا سلاحاً خفياً : غذاء مسموم، دواء قاتل، ماء ملوث، وأوبئة مصطنعة. حربهم ليست بالسيوف والدبابات فقط، بل حرب تفتك بالروح والجسد معاً، حرب صامتة لا يُرى سلاحها بالعين.
وفي النهاية، يتهيأ مشروعهم لذروته؛ أن يقدّموا "المسخ الدجال" "كالمخلّص الكاذب"، ليُقنعوا أنفسهم أن خطيئة قابيل قد مُسحت، وأن الله سيُجبر على تقبّلهم رغم جرائمهم.
العبرة أن هابيل يظلّ رمز الإنسان في صفائه، المحبوب من الله، فيما يقف قابيل شاهداً على انحراف الإنسان وتمرده على خالقه. والصراع بينهما حرب خفية، ممتدة من الدم الأول إلى آخر الزمان. كيف تلاقت أهواء "اليهوذا" بأهواء الدجّال، حتى غدت كالمثل وافق شنّ طبقة هو يروّج لهم، وهم يروّجون له، فيغدو الطريق معبّداً لغاية واحدة. وما يدار خلف الكواليس لا يشي إلا بحقيقة دامغة: أنكم جميعاً في حرب مع "اليهوذا"، وأنتم عنها غافلون. إنّها الفكرة الأزلية ذاتها، منذ أن أبى إبليس السجود لآدم وقال: "أنا خيرٌ منه". فهل آدم، في رمزيته، يمثل البشرية كلها، وهو ظلّ هابيل في طهره، بينما قابيل و"اليهوذا" هما الشيطان إبليس ؟
إذا الواقع يخبرنا أن قابيل ظلّ إبليس في هيئته الشيطانية، وهابيل ظلّ آدم في إنسانيتة المكرّمة. وإبليس يضمر العداوة للسيد آدم منذ مليون سنة، وذرية قابيل تحمل الضغينة لذرية هابيل منذ مئة ألف عام.